Sunday, November 25, 2018

الكرسي الخالي


في قلبها كرسيٌّ خالٍ، متناهٍ في الصِغَر، كلّما أغمضَت عينيها وأنصَتَت جيّدًا سمِعَت صوت أنفاس الرضيع النائم في هذا الكرسي.
طالَ انتظارُها له، وعلا بحرُ الدّمعِ الذي يملأ مهدًا صغيرًا لم تشترِه بعد، وكثُرَت المحاولات ومعها كثُرَت مُناجاتُها لطفلٍها: «آه لو تعلم يا حبيبي كم أحتمل وأصبر كلما لمحتُ أُمّا وكلما حملتُ طفلا وكلما دخلت عيادة الطبيب وكلما استلقيت على ظهري لأسابيع طِوال منتظرة نتيجة آخر محاولة طِبية وطريقة زرع مجهرية.
«قل لي يا صغيري، هل أنت قادم؟ إعفِني من عذاب الانتظار، قد يكون اليأس أكثرَ رأفة بي من أملٍ كاذب.»
***
في بيته كرسيٌّ خالٍ، يجلس عليه كلما ضاقت به الدنيا واحتاج أن يشتمّ رائحة الحكمة التي لا تزال تنبعث من خشبٍ عتيقٍ باقٍ حتى بعد رحيل صاحبه. «هل أنا أنانيٌّ يا أبي؟ هل اشتقتُ إليك بصدقٍ أم أنني فقط أفتقد ما كنتُ أحصل عليه من وجودك؟
«يدّعي البعض أن الموتى يسمعوننا إذا خاطبناهم، لكنني أحتاج أن أسمعك أنت، أن أسألك وأستشيرك، أن أعرف رأيك وأختلف معك. لماذا رحلت وتركتني بلا سند؟ الآن عرفتُ ثِقل الحمل الذي كان على أكتافك. اصبحتُ أنا الآن ’كبير الأسرة’ وهم لا يعلمون أني في أعماقي مكسور الظهر، جريح الجناح.»
***
على سُفرتها كرسيٌّ خالٍ، تعتصر مَعِدَتها ألمًا لرؤيته. لا يجد الطعام مكانًا في أحشائها لأنها جائعة طوال الوقت، جائعة لأن تقبّل وجنتيه للمرة الأخيرة، وتهمس في أذنه: «أنا أحبك، وسأظل أحبك حتى آخر نفَسٍ في عمري... عمري الذي لو كان بيدي لأعطيتك إياه ورحلتُ أنا عوضًا عنك.
«أنا آسفة يا ولدي، سامحني لأني ككل الأمهات الثكالى، نادمة على كل مرة حرمتك فيها من أمر أو أجّلته لأن قراري كان لصالحك، يا ليتني كنتُ أعلم...
«سريرك خالٍ في بيتنا، لكنك تنام في قلبي كل ليلة، ومثلما اتحد نبضي بنبضك تسعة شهوروأنت في أحشائي، عاد نبضينا ليتّحدا تسعة دهور وأنت تسكن قلبي وعقلي وفكري وتعشش في كل خلية في كياني... لأني أمك... وسأبقى أمك إلى مدى الأزمان...»
***
في أحلامِها كرسيٌّ خالٍ، تَحِيكُ له كلّ عامٍ غطاءً جديدًا من حرير صفاتٍها، وترصّعه بلآلئ شخصيّتها. تفرش الغطاء على الكرسيّ يوم عيد ميلادها وتتأمله بعدساتٍ من الدموع المنهمرة مع كل "عقبالِك" و "شدّي حيلك" و "نفرح بيكي" سمِعَتها طوال عامٍ آخر مرّ من دونه. وتسأل نفسها: «كم عامًا قادمًا سيشهد عدم وصوله؟ هل يفكر هو فيّ ويستعد للقائي كما أفعل أنا؟ هل أتاني متخفيًا فلم أعرف أنه هو، بل ظننته مجرد "عريس" آخر أو شابٍ "طالِب القرب" وأنا التي رفضتُه وأغلقتً أبواب قلبي وشغّلتُ عقلي أكثر من اللازم؟
«هل حصلتُ أخيرا على ذلك الوشم الذي يراه الجميع على جبين كل من تتأخر في الزواج مع أنها "كاملة الأوصاف" فيغدو عيبها الوحيد أنها "مغرورة" وتتحول الكلمة إلى لافتة تحذير في شارع حياتها كُتب عليها "إحذر الإقتراب". حتى وإن نجَحتُ في نزعِها من على الرصيف، إلا أنني سأفشل حتمًا في نزعها من عقول كل من أقابله في العمل ودور العبادة وأثناء السفَر والتجمعات العائلية واللقاءات الودية.»
***
وسط لياليها كرسيٌّ خالٍ، لا تراه بوضوح إلا في الظلام، بعد انسدال الهدوء، فضجيج منزلِها نهارًا يصُمّ الآذان، وعجيج أفكارها يزيد من علوّ الموج الذي يلطم وجهها فتتعذر الرؤية. لكن الكرسيّ قابعٌ هناك كالسراب، كلما ظنّت أنها اقتربت منه تجده قد استدار وابتعد... تمامًا كما استدار الخاتم وأحاط بإصبعها يوم زفافها، وكما استدار بطنها وتكوّر يوم أصبحت أمًّا، وكما استدارت أيامها كالدوامات مبتلعة أحلامها لنفسها ولمستقبلها. تغتال كلََ كلمة محذوفة من قاموس الأمومة، وتشتكي على أية فكرة كي تعتقلها شرطة مكافحة الأحلام، وتنبذ أي هدف لا ينصبّ في صلب بئر التضحيات الأنثوية لأسرتها.
الـ"أنا" تحوّلَت إلى "نحن"، لا بل تحوّلَت إلى "هم" وفقط هم: «ما هو هدف حياتي غير زوجي وأبنائي وأهلي؟ إنها أسمى الأهداف وأرقى التطلّعات وتتمناها ملايين النساء حول العالم وها أنا متذمّرة.. شاكية.. باكية.. منعدمة الضمير.. قليلة الإمتنان.. ناكرة للجميل...»
***
داخل مرآتها كرسيٌّ خالٍ، لا بل كرسيان، يتمركز كل واحد في سواد بؤبؤ عينيها. لذا كَرِهَت المرايا وتجنّبتْ النظر لانعكاس صورتها أينما كانت. «ما الفائدة يا أمي إن كنتُ أُشبِهُك في ملامحي لكنني أعجز عن أن أشبهَكِ في حياتي؟ لماذا لم تتركي لي دليلا شاملا يشرح بالتفصيل كيف يمكنني أن أكون ولو رُبعَ ما كنتِ أنتِ عليه في حياتك وما يقوله الناس عنك حتى بعد رحيلك؟ أتعلمين يا "ماما"... أسمع هذه الكلمة كل يوم عشرات المرات، نعم لقد أصبحتُ أنا أُمًّا. ومنذ أن حدث هذا وأنا تائهة... أهيم على وجهي في غابة الأمومة، أتخبط في قراراتي وفي تقصيري وعجزي.
«أحتاجك أكثر من أي وقت مضى. فقدتُكِ ... وبفُقدانِكِ فقدتُ بوصِلَتي وملاذي... فقدتُ ذلك الشخصَ الوحيدَ الذي كان سيفتخرُ بي، وسيخاف عليّ، وسينصحني بحنان، ويعاتبني بحب... فقدتُ كل ما هو "غير مشروط" وغدتُ "يتيمة" بكل مافي الكلمة من معنى وألم.»
***
في العيد... كرسي خالٍ... يتمركز حولَه عيدُنا... فإما أن نجتر أحزاننا ونبقى عالقين في حلقة مفرغة لا أمل بالخروج منها طالما أبقينا ذلك الكرسي في المركز... أو أن نتجرأ ونفرح بعد رحيل الغوالي فيباغتنا الذنب كالإرهابي مرتديًا حزامًا ناسفًا لأي فرحة وماسحًا لأي ابتسامة...يعتلي الكرسي الذي في المركز ويشد الزناد ويفجّرنا...

ما أكثرها...
تلك الكراسي الخالية في بلادنا، وفي بيوتنا، وفي حياتنا...
وما أصعبها...
رحلة التعافي والشفاء والتدرب والتعلم والتعثر، كي نصل إلى عيدٍ ما، في سنةٍ ما، يومًا ما ونقرر أن ننزع الكرسي الخالي من المركز وندمجه في خط الدائرة ليأخد مكانه ومكانته في حياتنا لكن دون أن تتمحور بمجملها من حولِه...

يومئذٍ سنسمح لأنفسنا أن نعيّد من جديد، أن نذوق طعم الفرح الذي نسيناه ونسِيَنا، أن تحفر الإبتسامة طريقا جديدا تشقّه بجهد على وجوهنا... رغم الكرسي الخالي...

Wednesday, July 11, 2018

مذكرات زوجة قسيس شابة: الكهف

قُصاصات وقِصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القُرّاء أشارككم بها، قصاصاتٍ من دفتر مذكراتي فيها قصصٌ من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطورُ إلى جسورٍ طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.

مذكرات زوجة قسيس شابة
/الكهف/

تحية إمتنان وشكر لكل الغواصين وعُمّال الإغاثة اللي يومًا ما انتشلونا من الكهف...
كام مرة لقينا حالنا ضايعين جوا كهف... ومنسوب الدموع عم يعلى ويعلى حتى اتحبسنا وما عدنا عارفين نطالع حالنا...
هونيك... جوا... جوا... بالعتم والرطوبة والسكون المشبوه، لما أبسط صوت بيتحول لضجيج مرعب...
هونيك... جوا... جوا... فقدت الاتصال مع الناس وبعِدت لدرجة بطّل فيني أبعت حتى كلمة أو إشارة أو نداء استغاثة ...
هونيك صليت وقلت: يارب... يارب حدا يحس بغيابي ويجي ورايي يدور عليي ويلاقي حذائي ودراجتي ع باب الكهف...

أكيد في ناس كتير مرّوا من جنب باب الكهف... طب ليش ما سألوا عليي؟

يمكن لأنهم فكروني مو محتاجة مساعدة، لأني دخلت بإرادتي، بمزاجي، وكامل قوايي العقلية... والنفسية...

يمكن فكروني أنا مقررة كون لحالي، عم يحترموا خصوصيتي، والوقت الإنفرادي تبعي... وبكل حسن نية، حاشاهم يكونوا متل الكاهن أو اللاوي ولا حتى السامري الصالح، قرروا يكونوا موضوعيين وواقعيين وما بدهم يزعجوني بحشريتهم أو تدخلهم، لهيك تاركينني على رواق...

يمكن فكروا الموضوع مو مستاهل، هي مغارة صغيرة مو كهف، وأنا لسا طفلة، لسا مراهقة، لسا طالبة جامعة، لسا متخرجة جديد... لسّا ولسّا ولسّا... ما شفت شي من الدنيا حتى كون عالقة بكهف ومحتاجة مساعدة... بكّير على هيك هموم... هدول الناس أنضج مني وأكبر مني وشايفين وضعي طبيعي وبسيط، بالعكس، شايفينه ضروري مشان أتعلم دروس رح تفيدني بالمستقبل لما ساعتها بقا يجد الجد... مو هلأ... قايسين كهفي على مقاييسهم وطلع في الموازين إلى فوق... قاسيين عليي بموقفهم وبإنسحابهم ومستخفّين باللي أنا فيه...

يمكن ما فكّروا من أساسه... هني مرّوا مطاطيين راسهم وشافوا حذائي مو لأنهم عم يدوروا على شي ع الأرض، هني كتافهم محنية من كتر الهموم... مرّوا مشغولين بحياتهم ومشاكلهم ودنيتهم... مو ناقصين هَمّ زيادة...

بس في ناس وقفوا... بكل "فصل" من فصول حياتي كان في ناس بتوقف... وبتسأل: هاد حذاء مين؟ أو بتعرف ان هاد حذاء رهام، هل هي بخير يا ترى؟
في ناس خلعت حذاءها احترامًا لقدسية الأرض جوا كهفي... وفاتت ورايي تدور عليي وتنادي إسمي...
في ناس حسوا إني طوّلت بغيابي هالمرة وبعتوا ورايي حدا بيعرف المنطقة، حدا مختص، حدا متمرّن، حدا متواضح رح يوطي راسه عند باب الكهف ويدخل من الطريق الأضيَق والأكرَب...

هدول الناس... في منهم اللي كمّل بحياته وما عدنا كتير على اتصال بس لساتني حاملة البصمة اللي تركها بمرحلة كتير حساسة وحرجة من حياتي أنا، حساسية المرحلة ضاعفت من الاحتياج بهداك الوقت وبالتالي ضاعفت من المفعول الإيجابي ومن عمق بصمته وجمالها... وفي منهم اللي لسا محتاجته بهاد الـ"فصل" الحالي بحياتي، وقد ما كابَرت ورفضت وادّعيت اني مو محتاجته، باسمع صوت صدى أفكاري عم يتردد على حيطان الكهف ويطلب المعونة...

يا ترى شو كهفِك اللي انت علقانه فيه حاليًا؟ هاد هو السؤال. صارلِك كام يوم عم تتفرجي على الأطفال ومدرّبهم بتايلاند وعم تتابعي أخبارهم انت وعم تقولي لحالك: أنا كمان محتاجة حدا يساعدني، يمكن مو لدرجة انه يضحّي بحياته ويموت متل واحد من الغواصين اللي زميله سحبه غايب عن الوعي بآخر رحلة الـ 6 ساعات وهني عم يوصّلوا أوكسيجين للأطفال، وللأسف ما استعاد وعيه وما صحي... بس على الأقل أنا محتاجة غواص يحاول، محتاجه يبعتلي تطمين: أنا شايفِك، أنا مهتم لأمرِك، أنا رح حاول ساعدِك، انتِ مانِك لحالِك، انتِ مهمة وبتستاهلي وقتي واهتمامي وتواجدي معِك... يمكن تكوني محتاجة فريق ويمكن محتاجة صديق، انتِ اللي فيكي تحددي موقعك بالكهف وتستنجدي بفريق إغاثة كامل ومُجهّز أو تتصلي بصديقة تفضفضيلها وتطبطب عليكي...

يمكن يكون السؤال بالنسبة إلك مختلف شوي، ما عم تسألي حالك: "شو كهفي؟"، عم تسألي حالك: "شو دوري؟" يمكن شفتي حذاء، يمكن سمعتي نداء، يمكن إحساسِك من جوا عم يأشّرلِك على حدا معين ويقولِك: فلانة مو على بعضها، يمكن محتاجة مساعدة، يمكن محتاجتِك انتِ تحديدا. حتى لو مانِك حاسة حالِك عندِك هالشي العظيم اللي ممكن تقدميلها اياه، بس اللي أكيد عندِك هو قلب يحب وأدن تسمع وإيد تلمس، هدول كنز لو انحطوا مع بعض بيعملوا مثلث برمودا فيها رفيقتك ترمي جواته همومها فتختفي وتتلاشى... ولو لقيتي ان رفيقتك همومها أكبر من هاد المثلث اللي عندك، فانت عندك شي رابع هي محتاجته، عندك كتف قوي تقدري تحطيه جنب كتفها، ومشاكلها اللي أتقل من انها هي تشيلها لوحدها صرتوا متشاركين بشيلتها... ونياله كل مين عنده كتف جنب كتفه يشيل معه مسافة، طالت أو قصرت، على طول هالدرب...



بدون تعليق: أول مرة باكتب مقال بسلسلة "مذكرات زوجة قسيس شابة" مو بالفصحى، ما فيني قول اني اخترت العامية (السوري) بقرار واعي، الحقيقة ان هي اللي اختارتني وهيك كان المقال مكتوب براسي وهيك طلع، طبعا كان فيني "ترجمه" بس خليته متل ما هو.

وأول مرة بحط صورة مو أنا اللي مصورتها، لهيك مافي عليها توقيعي لأنها لا تصويري ولا رسمي أنا. هي فنانة (مو أكيد، يمكن تطلع صبي) رسمت عمليات الإغاثة في لوحة رائعة فيها مجموعة حيوانات كل واحد منهم رمز لشخص أو مجموعة أشخاص، والرجل الحديدي هو الملياردير إيلون مَسك.
فرق الإغاثة بحسب جنسياتهم كانوا كالآتي: الأسد فريق الإغاثة البريطاني، الكنجر هو الأسترالي، الباندا هو الصيني، النسر هو الأميركي... الخ / الضفادع رمز كل الغواصين / التنين رمز للمهندسين وعمال الحفريات ومضخات تفريغ المياه / الطيور رمز الميديا...